شارك البودكاست

القصيدة

شجوٌ؟ أم زهوٌ أم هذيانْ؟

شِعرٌ؟ أم لغوٌ يستطردُ في الذاكرة

إلى أن يقطعه النسيانْ؟

أم تتحرك شفتاي فيخرج من أعماق القلب

فحيحُ الشيطانْ؟

قم يا سانشو

عاد إليّ الأرق المزمن،

والهمُّ الأبديُّ،

امتلأ القلب المرهَقُ بالأحزان

نَبعتْ في الليل من الصمتِ،

ومن صفحات الكتبِ،

وراحت تسري كالنمل على الجدرانْ

قم واسمع أفكاراً ما كانت بالحسبانْ:

إن كانوا نجحوا في سحب الفيل

لكي يدخل في سمِّ الإبرة كالخيطانْ

فلماذا لا ننجح في شغل الفيل من الخيطانْ؟

إن كانوا نجحوا في تحويل الانسان إلى حيوانْ

فلماذا لاننجح في ارجاع الحيوان إلى انسان؟

يختار العنت،

وجهل مصادر لقمته في الغدْ

يهجر دفء الزوجة واستقرار البيت،

ويختار الهجرة في غربة ليلٍ وحشيٍّ،

ملتحفاً بالعُري وبالبردْ

ليكمل جولاتٍ خاسرة في الميدانْ

يسلك هذا الوعر، ويترك ذاك الدرب السهل

يفتش عن أوجه قبح الدنيا

ويفتش مكنونات القلب عن الكلمات

ليرفع صوتاً ضد القهر،

ويسري خلف الكلمات الصعبة،

يهجر ذبذبة الشعراء بأبواب السلطانْ

يكتب ما يلقيه إلى السجن وأبواب الحرمانْ

أهو المجنون أم الشاعرُ؟

أم شعرٌ مجنون مرغوبْ؟

ألشعر المجنون هو المطلوبْ

في دنيا تمشي بالمقلوبْ

مملكتي ليست من هذا العالم،

والشعرُ صليبي حين يغيبُ الاعداءُ

ولا ينفع سيفٌ لمواجهة الظلم

بعالمنا المعطوب.

شعرٌ؟؟

شعرٌ وسط ضجيج صيارفة الأوطانْ

وسط ذئاب تتناهش،

شعر بين النخاسين،

يغني الزهر، ورائحة الأرض،

وأحلام الانسانْ.

شعرٌ؟.. كلماتٌ؟.. أم هذيانْ

والكلمةُ هذي العاهرة المجذومة

تُنفى وتطاردُ،

تُخشى وتحقّر،

ثم تنادى مثل المشروبْ.

بلوانا يا سانشو

أن الروح أمست كرعد في جسدٍ مهترئ وهزيلْ

تتفجّر في جسد يتهاوى

الرغبة في الرحلة تنمو،

ولدرب يطول وهذا الزادُ قليلْ

ها نحن غبار الحرب يغطينا

والكدمات على وجهينا، والحلم قتيلْ

نمشي نحو المنفى باطمئنانْ

فالمنفى هدفٌ لا يحتاج دليلْ

بحصاني الأعجف (أعرفه أعجف)

بالسيف الصدئ (وأعرفه صدئاً)

بالرمح المكسور (وأعرفه مكسوراً)

بالجسد المهزولِ.

كآخر نبضات فتيلْ

بالوجه الشاحب، والترس المهروء

وأنت على قدميك،

وأحياناً فوق حمارك

لا شك نثير الضحك

ولا تخشانا حتى الفئرانْ.

لكن، يا سانشو،

في هذا الزمن القاحلِ

نحن الفرسانْ

ماذا ظلَّ من الفرسان بعصر

تُحْسَبُ أرباحُ العزَّة فيه

كما تحسبُ أرباح الدكانْ

ماذا ظل من الفرسان سوى الريش

على أجساد طواويس السلطان

من ظل سوى من صاروا عند الملكات الخصيانْ

عند الأمراء الغلمانْ

عند التجار وأصحاب الصفقات الصبيانْ

صاروا جبروت الطغيانْ

عند التجار وأصحاب الصفقات الصبيانْ

صاروا جبروت الطغيانْ

وبذار الفوضى، ولصوص الأسواق المتباهين بأسلحة الزينة للارهاب،

يحيلون الدنيا غابات من قضبانْ

صاروا أبطال الحانات وكانوا أمس نعامات الميدانْ

يتباهون بأن لهم أجداداً كانوا للعزة نبراساً، يتفانون لتستير هزائمهم،

وينامون على الألقاب الفخمة في أمجاد الشعر الزائف والشعر الرنانْ

تتجاوب أصداء الكلمات العاهرة

لديهم كالأجراسْ

شعر يوهمهم أن خيولهم فوق النجم

وخبرتهم فوق العلم

وهم أسرى الخوف يسيِّجهم بالحراسْ

بدل استقبال الزهر بموكب نصر

بدل أغاريد الحب الطالعة من الفخر تحيل اللّقيا أعراسْ

صار كل مواكبهم حرساً

يحميهم حتى من نظرات الناسْ

لم يبق سوانا يا سانشو

نحن الفرسانْ

بمتاعبنا وهزائمنا وجراح معاركنا

بالعُرج المضحكِ في ساق جوادي

والبطء المرهق في سير حمارك

نحن الفرسانْ

يكفينا أن نفعل ما يمليه علينا الوجدانْ

يكفينا أنّا لا نصمت عند إهانة إنسانْ

وصحيح أنا شخنا يا سانشو

كثرت في الجسد العلَلُ، وما ظل رجالُ أتكلّ عليهم

وصحيح كثر الأعداء، اخترعوا للتعذيب فنونا

قَلَّ الصّخبُ فراحوا ينتحرون جنونا وسجونا

وتقوس ظهري، ازداد الجسد نحولا

وازدادت وحشة وحدتنا

بالباطل كالقيظ يغلفنا كي يخنقنا

لم يبق سوى الهاجش بالحق أنيساً وعزاء

وصحيح أنّا لا نجني إلا الألم وضحكات الاستهزاء

وشماتة من كان نهانا لم نسمعه،

ومن كان دعانا لم نقبل دعوته

نحو الكأس ودفء الأحضانْ

لكن سأظل أنا جبلَ الرَّفض وهم وادي الاذعانْ

إذ ترتفع على الأرض جبالٌ شُمُّ تتعمق فيها الوديانْ

وأنا القمة تيأس من شمس تدفئها

أو بطل عالي الهمة يبلغها

تتلوى تحت سياط الغربة والوحدة

كم كابرت لكي لا أصرخ أني وحدي

وتشبثت بصفحات من كتبي لتعزيتي

وتطمئنني أن العالم يمشي نحو الهدف الأمثلْ

أن النصر لأصحاب المبدأ والسعي الأفضلْ

هل سجّل سعيٌ في الدنيا أكبر من سعيي؟

هل يعرف تاريخ مجازر هذا الوعي

شهيداً أوضح من وعيي؟

منذ بدأت الرحلات ولم ألبس إلا الأكفانْ

لم أتفيأ شجراً إلا الصلبانْ

من مجزرةٍ نحو مجازرَ أخرى يمشي بدني

من مقبرة نحو مقابر خرى أضحى سكني

بين الدمعة والدمعة لا أبصر إلا وطني

في كل مكان أنزلُ، تنزلُ حولي اللعنات

وسخرية المرتاحين على الذل،

تحاصرني ويلات الأعداء، تهبُّ عليّ عواصفهم كي لا يعلق جذري في الأرض

تدمر من حولي

حتى يجبرني الخوف عليهم أن أرحلْ،

فيودعني الدمعُ وزهر صباياهم

ورغيفٌ خبأه لي في السر الجوعانْ

أعجز كالأخرس عن كلمات العرفانْ

فأرد جميلاً للبائس أمنحه كفني

وأقول تدفّأ يا بردانْ

سأموت كما عشت وحيداً عُريانْ

والآن

الهمُّ تراكم ثلجاً في باب القلبْ

القهر تجمع مرضاً بين مفاصلي الوَهْنى

حزني يتصبب فوقي طيناً يثقلني

وأكابر كي أحبس دمعي يخنقني

حين أرى العالم من حولي ينهار

ويستسلم للطوفان

حين رأى ما كان اليوميَّ يصير الحلمَ، وما كان كلاماً مألوفاً يصبح جرأة منتحرٍ،

وأنا أصرخ لأحذر مما في الغد يأتينا

والآن أراه يقينا

أصرخ أني وحدي

لم يبق قريباً مني أفقٌ

لم يبق على أفقي أملُ

ولكي لا أمسك باليأس ألوذ بموتي

أصبح بجعَ الأيام الصعبةِ

يتسرب قهري من بين مسامي

تمتلئ الدنيا بالأعداء

والأعداء انزرعوا في أجساد ضحاياهم.

لا أعرف كيف أميز بين القاتل والمقتولْ

والكل ضحايا خضم معروفٍ مجهولْ

تمتلئ الدنيا بالمتصامم والمتعامي

تمتلئ الدنيا بالراضي بالذل،

وبالساكت عن حقٍّ،

بالمتهيء كي يقتنص مكاني

في بيتي وعلى سرج جوادي

أو في قلبك،

دون نوايا أن يسعى لمرامي.

القهر ورائي وأمامي

وغدي مسحوب من عمري،

أمسي يتمترسُ قدامي

وأنا النسر المجروح المثقلُ

بجناحيه المكسورين عن الطيرانْ

يتقلب في فزع مقهور

إذ تتكاثر كي تنهشه الغربان

جفَّ العمر ولم يبق بجسمي إلا الداء

حولي لم يبقَ سوى الأعداء

إنهض يا سانشو

أنبض قوسك وارم السهمَ، ولا تلحقه بعينيك، فحيث يصيب السهم هناك الأعداء

لم يبق سوى الأعداء

أشهر سيفك واضرب كيف تشاء

حيث تجيء الضربة فهناك الأعداء،

لا تُصْغِ لمن يهرفُ أن أمامك وهاماً وطواحينْ

ليس أمامك غير طغاة كذابين،

لهم مكرُ شياطينْ.

هم قالوا: ذاك جنونْ

قالوا: تلك طواحين وليست طغيانا

قالوا، وانبطحوا تحت نعال الظلم لكي لا ينهض في المستقبل من يتصدى للطغيانْ

قالوا: هذي أرضٌ لا تصلحْ

هذا طقس لا يسمحْ

هذا ظرف لا يسنحْ

قالوا: انتظر الفرصةَ، ثم تراخوا مرتاحين على النزفِ، فلا تُصغِ إليهم

حربك تصلح في كل مكانْ

في كل زمان

معركة اليوم بلا أملٍ بالنصر، وأنت تقاتل كي لا تخجل من نفسكْ

كي تجرؤ أن تنظر في عيني إبنكْ

كي لا تغرقك الأحلام المخزية، وكي تبقى انسان

ما زالت في أعماقي تلك القوة أن أصرخ

أن أهجمْ

أن أهزمْ

وأعيد الكرة دون طموح أو أوهامْ

لا أطلب إلا أن أتأكد أني في أعماق القلب ظللتُ كما كنتُ ولم أستسلم للتيار

أني ما زلت أريد بأن أسبح ضدَّ التيارْ

أن الظهر تقوس كي يصيح : لا

أن الساقين إذا أعجزني السير ستلتفَّان بشكل الـ “لا”

أرفعُ زنديَّ أندد بالظلم يصيران الـ “لا”

لم ارفع شارة نصر بأصابع كفي، بل أشهرت الـ “لا”

لم أقبض كفّي أجْني كسباً بل كنت قبضت على الجمرِ سرقتُ النارْ

سنهاجم حيث سنهزمْ

ونعيد الكرّة بعد هزيمتنا مثل اللعبهْ

مثل مضاجعة العاقر لا تأملُ أبناء، بل يكفيك قضاء الرغبهْ

سنهاجم بالغضب المتوهج مما ظلَّ لدينا يغضبْ.

سنهاجم بالعزم النابع مما ظلّ لدينا لم يتعبْ.

سنهاجم كي لا تفتقر الدنيا للأنباء

كي لا يستشري الظلم، ويسترخي في ثمرات الشر الأشرار.

ليس من اللائق أن لا يحتاج العار إلى أستارْ

ليس من اللائق أن يغفو كل الناس بدفئ الأعذارْ

فالشهداء مضوا، لكن أخذوا معهم كل الأعذارْ.

ماذا ظل لدينا إن نحن تكاسلنا وترخينا؟

سنعود إلى البيت لنلقى العتب على التضحية وعيش الغربةْ.

سيقولون: لو ارتحت وطامنت وجاملت،

ولو جئت بأنثى ترزقك الأبناء فتجعل هذي الدنيا رحبهْ.

سيقولون: الظلم يعمِّرُ هذا العالم ، وهو به صار اللونْ

أنت بأحلامك لن تقوى أن تهدم أسس الكونْ

ماذا أفعل؟

مازلت أرى المنفى أن أحيا وسط نفايات المُثُل ، وليس المنفى أن أرحلْ

مازلت أظن الانسان إذا واجه ما يخجلُ يخجلْ

وإذا واجه ما يحزن يحزن أو يبكي

وإذا واجه حُسْناً يعشق أو يتأملْ

مازال القلب يراوغ عن أسئلتي، يخفق أجوبةً، ما زال القلب هو الهادي

ما زالت “لا” في كلمات اللغة هي الأجمل

ما زلت جموحاً لا أخشى شيئاً خارج هذا الجسد المتهاوي

لا أخشى غير الخوف (سنقتله قبل البدء برحلتنا)

لا أخشى غير الأمل الخادع (بخلعه قبل البدء برحلتنا).

هات جوادي

ارفعني كي أعتلي السرجَ وسلّمني الدربْ.

زوادتنا فارغةٌ من أي طعام أو شُربْ.

إن بادرك اليأس من الرحلة ودّعني

إن كنت ظللت كما كنت المؤمن بالسعي وبالهدف وليس المؤمن بي

إن فاض القلب بحبِّ المجنون الكهلِ العاجزِ فاتبعني عن قُرْبْ

وتهيَّأ للضرب

وتذكّر دوماً أني لم أقطع وعداً بالنصرِ،

أنا لم أضمن إلا استمرار الحربْ.

Series Navigation<< الهجيج.. عن رحيلنا الكبير