رواية إحراق حظيرة
ويليام فوكنر
في زمن كان يعاني المجتمع الأمريكي من الإقطاعيين الذين يستحوزون على مساحات شاسعة من الأراضي الزراعية، وكان فقراء المزارعين يقومون باستئجار قطع من هذه الأراضي، وزراعتها على أن
يكون للمالك النسبة الأكبر من الحصاد؛ فولد ذلك قدر هائلًا من الحقد الطبقي من فقراء المزارعين على الأغنياء، وكانت من أشهر طرق إنتقام المزارعين من المُلَّاك وقتذاك، هي إحراق الحظائر.
..
كان المستودع الذي يجلس بداخله قاضي الصلح يفوح برائحة الجبن . وقد عرف الولد الذي كان جالسا على برميل صغير في القسم الخلفي من الغرفة انه كان يشم رائحة الجبن ، بل أكثر من ذلك فمن حيث موقع جلوسه استطاع ان يلمح الرفوف المرصوصة بنظام بأشكال ديناميكية لعلب قرأت معدته علاماتها الملصقة عليها ، ليس من خلال الحروف التي ما كانت تعني لإدراكه أي شيء، بل من خلال الشياطين القرمزية والالتواءات الفضية للسمك المحفوظ ــ هذا الجبن الذي ادرك بأنه قد اشتمه وذاك اللحم السحري المذاق الذي حسبت امعاؤه انها استنشقته كان ينبعث من فوران متقطع يخطف الأبصار، قياسا بتلك الرائحة النفاذة الممزوجة بقليل من الشعور بالخوف والحزن واليأس ، عبر تلك الدفقات القديمة للدم . وهو لم يكن قادرا على ان يبصر المنضدة التي كان قاضي الصلح يجلس عليها ومن قبله ابوه وعدو ابيه ( عدونا ، كما اعتقد بتلك النبرة من اليأس ، عدوي وعدوه في وقت واحد ! انه ابي ! ) نهض واقفا واستطاع ان يراهم ، ان يرى الاثنين ، ذلك لأن أباه لم يكن قد نطق بكلمة واحدة ، حتى الآن : ” ولكن أي دليل لديك ياسيد هاريس ؟ ” .
” كما اخبرتك . لقد دخل الخنزير الى عرانيص الذرة الخاصة بي ، وما كان لديه أي سياج يمكنه من صد ذلك الاقتحام . وقد قلت له هذا الكلام وحذرته . لقد منحته ما يكفي من الأسلاك من اجل ان يسيّج حظيرته الصغيرة . وفي المرة التالية قمت برفع الخنزير واحتفظت به في الداخل . انحدرت الى بيته ورأيت السلك الذي اعطيته له ملفوفا على باحة الحظيرة ، فقلت له ان بإمكانه ان يأخذ الخنزير إذا ما منحني دولارا كأجر لقاء ذلك وفي تلك الأمسية أتى زنجي بالدولار واخذ الخنزير. لقد كان زنجيا حقيرا وغريب الأطوار . قال : ” هو يرغب في إخبارك بأن حظيرة الخشب والقش تحترق ” وفي تلك الليلة قد تحترق الحظيرة فقمت بإخراج الجذوع غير انني لم اجدْ اثرا للحظيرة “.
” اين هو الزنجي ؟ هل يمكنك الوصول اليه ؟ “
” كان زنجيا غريب الأطوار ، اقول لك . لا اعرف ما الذي جرى له “
” لكن هذا لايعدّ دليلا . الا ترى انه ليس بدليل ؟ “
” اجلب ذلك الولد فهو يعرف ” .
ولدقيقة فكر الصبي أيضا في ان الرجل كان يعني أخاه الأكبر الى أن قال هاريس :” ليس هو . انه الولد الصغير ، الصبي ” ” ليس هو ، انه الولد الصغير ، الصبي “
وانحنى بحيث بدا صغيرا بالنسبة لعمره ونحيفا مثل ابيه ، وكان يرتدي سروالا من الجينز المنطفئ اللون والذي بدا ضيقا على مقاسه ، بشعره المسترسل البني اللون غير الممشط وعينيه الرصاصيتين حتى بدا متوحشا مثل سحابة من الريح مندفعة وشاهد الرجال بينه وبين جانب المنضدة وصفا من الوجوه المتوحشة . وفي الأخير أبصر القاضي وكان رجلا غير مهندم الزي وبلا ياقة قميص بشعره الأشيب وعويناته وهو يشير اليه .شعر بعدم وجود اية ارض تحت قدميه العاريتين، وبدا كما لو كان يسير تحت التأثير الطاغي للوجوه المقطبة والمتقلبة الألوان . أما ابوه فقد انتصب هناك متجمد الأوصال في معطف ايام الآحاد الأسود والذي لا يصلح لجو المحاكم انما للتنقل بين الأماكن الأخرى.ولم يكلف نفسه عناء القاء اية نظرة عليه . يريدني ان اكذب ، فكر ثانية وهو يلقي بنظرة متوحشة ويائسة وسوف اكون مرغما على فعل ذلك . قال القاضي ” ” ما اسمك ياولد ؟ “
همس الصبي : ” الكولونيل سارتوريس سنوبز “
فقال القاضي : ” ماذا ؟ ارفع صوتك . الكولونيل سارتوريس ؟ اعتقد ان من يحمل اسم الكولونيل سارتوريس لابد وأن ينطق بالحقيقة ، أليس كذلك ؟ ” .
لم يقل الفتى شيئا . العدو ! العدو ! فكر ، ولدقيقة توقف عن النظر وملاحظة ان وجه القاضي لم يكن عطوفا لكي يلاحظ ان صوته تلجلج عندما تحدث الى الرجل الذي كان يدعى هاريس : ” هل تريدني ان أحقق مع الصبي ؟ ” ولكنه استطاع ان يسمع ، وخلال تلك الثواني الطويلة المتعاقبة انه لم يكن ذلك الصوت المنطلق داخل الغرفة الصغيرة المزدحمة في غمرة الأنفاس الهادئة، كما لو كان يتأرجح باتجاه الخارج بأغصان كرمة عنب في واد ضيق . أما في أعلى الأرجوحة فقد أمسكته تلك البرهة الطويلة لجاذبية ذات اثر مغناطيسي وفاقد للاحساس بالوزن ، وقتئذ .
قال هاريس بحدة وصوت متفجر: ” كلا انها اللعنة الأبدية ابعده من هذا المكان”.
الآن تراكض الزمن والعالم السيّال من تحته ثانية ، وصارت الأصوات تتسرب اليه من خلال رائحة الجبن واللحم المعلب مختلطة مع الخوف واليأس والشجن القديم للدم : ” هذه القضية مغلقة . لا املك دليلا ضدك ، ياسنوبز لكن بإمكاني ان أعطيك نصيحة . غادر هذه البلاد ولا تعد اليها على الاطلاق “.
تحدث ابوه للمرة الأولى ، كان صوته أجش وباردا معتدل النبرة وبلا اصرار : ” اقصد ان .. لا أتصور مكوثي في بلد وسط اناس هم .. “
وغمغم بشيء بذيء وغير ممكن تدوينه وغير موجه لأي امرئ . اعلن القاضي : ” سيفي هذا الأمر بالغرض. خذ عربتك وغادر هذا البلد قبل الظلام . تم اقفال القضية “
استدار والده ملاحقا المعطف الأسود المتصلب والهيكل الخيطي الماشي بشكل متشنج يوم قدمته المحكمة العسكرية الابتدائية بتهمة سرقة حصان قبل ثلاثين عاما ا ، ثم لاحقت عيناه الرجلين وهما يوليان بظهرهما اليه منذ ان ظهر اخوه الكبير من بين الجموع ، ولم يكن أطول قامة من ابيه غير انه كان من الناحية البدنية اكثر بدانة . وكان لا ينقطع عن مضغ التبغ بين سطرين من وجوه رجالية عابسة ، وخارج المستودع وعبر البهو المتداعي وفي الأسفل حيث الخطى المتعثرة وسط الكلاب والأولاد الذين لم يبلغوا سن الرشد بعد وسط غبار شهر ايار حين أطلق احدهم فحيحا : ” حارق الحظيرة ! “
ومن جديد لم يكن في وسعه ان يرى ، وهو يستدير، وجها تطوف حوله سحابة ارهاق محمرة اللون تشبه القمر بل أكثر استدارة من البدر، وقد قفز نحو تلك السحابة قاصدا الوجه دون ان يشعر بألم اية ضربة او صدمة حبن ارتطم رأسه بالأرض وراح يخدش الهواء بيديه ثم نهض ثانية ، من دون أي شعور بأية صدمة ، هذه المرة ولم يستطعم أي مذاق للدم ، وخبط يديه لكي يبصر الولد الآخر وهو يمارس تحليقا كاملا في الفضاء . وكان هو بنفسه قد قفز في مسعى لنيل مراده حينما كبحته يد أبيه اعقبها صوته الأجش البارد وهو ينثر الكلمات عليه : ” هيا ، امض الى العربة ” .
كانت العربة متوقفة في خميلة ملأى بأزهار اللقاح وثمار التوت البري عبر الطريق . كانت شقيقتاه تسيران بتثاقل ترتديان قلنسوتين مضادتين لحرارة الشمس وكانتا تجلسان بالقرب من تلويحات الايدي التي كان الولد قادرا على تذكرها ـ الموقد الذي يصدر الغمغمات ، الأسرّة والكراسي المتكسرة . أما الساعة فكانت ملقاة بشكلها اللؤلؤي غير ان عقاربها كانت متوقفة منذ اربع عشرة دقيقة من الساعة الثانية ظهرا ذات يوم انقضى وصار بحكم المنسي، بعد ان كانت هدية في يوم زفاف أمه كانت تبكي ، رغم انها عندما شاهدته سحبت كمّ ثوبها باتجاه وجهها وأخذت بالنزول من العربة . فهتف الأب :
” عودي “
” انه يتألم . لابد ان اجد ماءً كي اشطف .. “
” عودي الى العربة ” ثم صعد هو اليها . أبوه اعتلى المقعد الذي جلس عليه فيما مضى اخوه الأكبر، وضرب البغلين ضربتين متوحشتين بغصن لشجرة صفصاف لكن بلا حرارة ، بل إنها لم تكن ضربة قاسية انما بالضبط كانت من النوع الذي كانت ترغم احفاده على تشغيل المحرك قبل مجيء السيارة . استأنفت العربة سيرها ، في حين تلاشى مشهد المستودع مبتعدا الى الوراء بعد ان اخفاه منعطف لأحد الطرقات .الى الابد فكر . لعله يشعر بالرضا في هذه اللحظة فهو الان .. توقف قليلا مترددا في النطق ببقية الجملة بل انه لم يكن ينوي ان يقولها لنفسه . امه لامست كتفه : ” هل آلمته الضربة ؟ “
اجاب :” كلا . الضرب لا يؤذي ” .
” أليس في إمكانك ان تمسح الدم قبل ان تجف الكدمة ؟ “
” سأغسلها ، الليلة . دعيني افعل ذلك ” .
وتواصل سير العربة . لكن الى اين هم ذاهبون ؟ لا يعرف .ولم يعرف أي واحد منهم الى اين هم سائرون او يتساءل عن المقصد ، ذلك لأن الأمر ينتهي دائما في مكان ما ، دائما في بيت يسكنه اناس ينتظرون ليوم او يومين بل حتى ثلاثة ايام . وبالمقابل فأن اباه كان قد رتب محصولا في حقل آخر قبل ان .. ومن جديد كان عليه ان يكبح نفسه هو ( الآن ) وكثيرا ما فعل ذلك .
كان هنالك شيء يتعلق باستقلاله الذئبي بل حتى الشجاعة حين يحين أوان انتهاز الفرصة بشكل هادئ وعلى نحو يجذب الغرباء .وكأنهم يستلهمون منه تلك الوحشية الكامنة في الأرواح . في تلك الليلة قاموا بالتخييم في خميلة من اشجار البلوط والزان حيث الربيع . وكانت الليالي لم تزل باردة لذا قاموا بإشعال النار من اجل التدفئة ، باستخدام قضيبين من سكة مهجورة موقدين عليها نارا شحيحة لهبا . وكان من عادة ابيه إيقاد مثل هذا الصنف من النيران حتى في اوقات التجمد .. وحين كبر الولد ، لعله انتبه الى هذه الظاهرة متسائلا لماذا لا توقد ناراً كبرى لمثل هذه الأوقات ولماذا لا يقوم رجل لم يشهد ابتلاءات الحروب بذلك، وهو الذي يكمن في دمه ذلك الإسراف النهم لماديات العيش التي لم يكن يمتلكها ، ولماذا احرق كل شيء يمكن النظر اليه ؟
وبعد ذلك قد يكون قد توغل بخطى اضافية الى الامام ،وظن ان ذلك هو السبب : ان اللهب الشحيح كان فاكهة ليالي الشتاء التي تقضّت خلال تلك السنوات الاربع في الغابات واختبأت عن اعين الرجال الشرهين .
ومع تقدمه في السن قد يكون تكهن بالسبب الحقيقي، ذلك ان عنصر النار قد خاطب احد منابع ابيه الروحية ، كعنصر الفولاذ او المسحوق الذي كان يخاطب به بقية الرجال ، كذلك السلاح الأوحد للمحافظة على الكرامة الشخصية والا فلن يستحق ان ينبعث من صدر المرء ، ومن هنا سينظر اليه بتبجيل ويجري استثماره جنبا الى جنب الحصافة والتعقل .
لكنه لم يفكر بهذا الأمر الآن فقد سبق له وان شهد تلك النار خلال سنوات حياته . كل ما كان يفعله هو الرقود لصق تلك النار وتناول عشائه والبقاء نصف نائم فوق طبقه المعدني حينما يناديه ابوه . ومرة اخرى أخذ يلاحق موضوع الظهر المتصالب وذلك العرج المتشنج الذي لايرحم ، أعلى المنحدر وعلى امتداد الطريق المضاء بالنجوم حيث كان يستدير ، وكان في مقدوره ان يشاهد أباه وهو يحملق في النجوم لكن من دون عمق ــ بشكل ذي لون اسود مسطح وبلا دماء كما لو كان قد اقتطع من علبة قصدير داخل الطيات الحديدية لسترته ( الفروك ) التي لم تخط لتناسب جسمه ، وكان الصوت خشنا مثل علبة معدنية بلا دفء :
” كنت تختار امر إعلامهم وكنت ستخبره أيضا ” لم يجب . صفعه ابوه براحة يده على صدغه ، بقوة لكن من دون حماس على المنوال الذي ضرب به البغلين في المستودع ، وتماما مثلما اعتاد ان يضرب احدهما او كليهما بأية عصا تكفي لقتل ذبابة حصان ،وكانت نبرة صوته بلا خوف او غضب : ” ستصبح رجلا ، وينبغي ان تتعلم . عليك أنْ تتعلم الانصياع لدمك كيلا يفر دمك من كيانك . وهل تفكر في أي منهما ؟ أي رجل في هذا الصباح ؟ ألم تعرف إنهم كانوا يبحثون عن فرصة النيل مني لأنهم يعلمون عن كوني واثقا من مسألة ضربهم .. أيه ؟” .
في ما بعد ، بعد عشرين سنة كان عليه ان يخبر نفسه لو كنت قد ذكرت بأنهم ارادوا الحقيقة فقط ، والعدل ، كان سيضربني من جديد ” لكنه لم يقل شيئا في هذه اللحظة . لم يكن يبكي . كل ما فعله هو انه وقف هناك :
” اجبني ” قال ابوه .
همس ” نعم “
استدار ابوه : ” اصعد الى فراشك . سنكون هناك في الغد ” .
وفي الغد توجها الى هناك. وفي بواكير المساء توقفت العربة أمام بيت غير مصبوغ ذي غرفتين يشبه عشرات البيوت الأخرى التي توقفت العربة امامها حتى في سنوات الصبي العشر ومن جديد ، وبدأ بتفريغ العربة ، على الرغم من ان اختيه واباه واخاه لم يتحركوا قيد انملة .
قال له الأب : ” على اية حال ، قم بإخراج الكراسي وساعد امك في تفريغ العربة “.
نزلت الشقيقتان وكانتا من الضخامة بحيث بدتا وكأنهما بقرتان بشرائط رخيصة ، سحبت احداهما فانوسا من العربة المحملة وكان فانوسا متذبذب اللسان وأنزلت الاخرى مكنسة متهرئة . ناول ابوه الأعنة لابنه الاكبر وجعل يتسلق بتشنج اعلى دولاب العربة : ” عندما تفرغ ، خذ المجموعة الى الحظيرة وأطعمها ” وبعد قليل من الوقت قال : ” تعال معي” بينما حسب الولد في البداية انه مازال يخاطب اخاه الكبير :
” انا ؟ “
رد ابوه : ” اجل ، انت ” .
فقالت امه : ” ياآبنر “
توقف الأب قليلا ونظر الى الخلف بنفس تلك النظرة الوحشية تحت الحاجبين الاشعثين الاشيبين : ” احسب انني سأتحدث مع الرجل الذي يهدف في الغد الى امتلاك جسدي وروحي لثمانية اشهر قادمة “.
قفلوا راجعين من الطريق نفسها . قبل اسبوع او قبل الليلة الاخيرة كان سيسأل الى اين هم ذاهبون لكنه لم يعد يشعر بالرغبة في السؤال حاليا .لقد ضربه ابوه من قبل اثناء تلك الليلة لكن ابدا وليس قبل ان يتوقف ويشرح الدواعي ، وقد بدا كما لو ان الضربة والسكوت الذي تلاها والصوت الغاضب مازال يقرع أجراس النسيان ، ولم يكن سرا كيما يفشيه لكي يوفرعليهم عقبة كونه شارف الفتوة او كاد ، وينقذ العبء الخفيف لعدد من السنين بما يكفي لمنع تحرره المرير من العوالم التي يحيا . استطاع الان ان يبصر حديقة البلوط واشجار الارز وبقية الاشجار المزهرة حيث البيت الذي لم يتم تشييده بعد .ساروا بالقرب من السياج المحتشد بأشجار( صريمة الجدي ) المملوءة بالرحيق وورد ( الشيروكي ) واقترب من بوابة مفتوحة كان مصراعاها يتأرجحان بين عمودين من الآجر. وشاهد البيت للمرة الاولى ، وفي تلك اللحظة نسي اباه واليأس والرعب ، وحتى عندما تذكر اباه ثانية ( والذي لم يتوقف ) اختفى الرعب واليأس بلا رجعة .ولأنه ، ومن اجل كل التحولات الأثني عشر ، كانوا قد أقاموا إقامة مؤقتة ولغاية الآن في بلاد فقيرة ، كانت في الأصل أرضا مؤلفة من حقول ومزارع وبيوت ، لكنه لم يشاهد بيتا كهذا البيت ، من قبل ،كبيرا مثل قاعة محكمة فكر بهدوء مع فسحة من الرصانة والوداعة والمرح ذلك انه عجز عن ان يحول افكاره الى كلمات لأنه كان اصغر سنا من ان يفعل ذلك انهم في مأمن منهم . ان ارواح الناس تشكل جزءً من هذا السلام ومن هذا الاحساس بالكرامة وفي ما وراء اللمس ، اما هو فلم يكن بالنسبة لهم اكثر من نحلة تصدر ازيزا ، قادرة على اللدغ لدقائق وحسب لكن ذلك كل ما في الامر ، ان تعويذة السكينة والكرامة تنعكس حتى على الحظائر والاسطبلات والمعالف التي ترجع اليها انما تكون عصية على الشعلات الهزيلة الأوار والتي بامكانه ان يوقدها .. هذا السلام وتلكم المسرّة سينحسران في لحظات اذا ما حدق في المعطف الاسود المتحجر والى العرج المتأصل في الشكل الذي لم يقزمه البيت ، ليس لأنه لم يحدث وان بدا شاسعا والذي يقف الان قبالة ستارة المسرح الخلفية ، امتلكت اكثر من أي وقت آخر تلك الخصلة المقاومة للاختراق لشيء يجتث من دون رحمة من علبة قصدير بلا أعماق باتجاه الشمس وبهذا سوف لا تقذف أي ظل ، وبالنظر اليه لاحظ الولد ذلك المسار غير المنحرف الذي تبناه ابوه وأبصر القدم المتصلبة وهي تنحدر الى الأسفل بشكل كتلة من الروث، وكان بإمكان ابيه تفاديها بتغيير بسيط في طريقة مشيته. لكنها انحسرت فقط للحظات رغم ان ما فكر به لم يتشكل لغاية الآن بشكل كلمات، متجولا في ارجاء البيت السحرية وهو البيت الذي تمنى اقتناءه لكن بدون نظرة حسد ولا أسى، وبالتأكيد من دون ذلك السخط الشرس الغيور المجهول المصدر بالنسبة له حيث سار في معطفه الحديدي الكالح السواد :
لعله سيشعر بذلك ايضا ولعل الامر سيجعله يستبدل ما لم يستطع استبداله الا انه حدث كواقع لا دخل له فيه.
اجتازوا الرواق المكتظ بالأعمدة. وفي ميسوره الآن ان يستمع الى وقع خطى اقدام ابيه المتصلبة كما لو انها هبطت على الحافات بنهايات متماثلة مع عقارب الساعة ، اصوات خارج التناغم ازاء تبديل البدن الذي حمله والذي لم يتقزم بعد كما لو انه حظي به لصالح لحظة صغيرة جدا .
كي لا تتصاغر ازاء أي امر كان ــ القبعة السوداء المسطحة والمعطف الرسمي الذي كان في ما مضى اسود اللون لكنه تحول الى اللون الاخضر الصدئ ، الأكمام المرفوعة التي كانت اوسع مما يجب، اليد المرفوعة والتي بدت أشبه بمخلب معقوف ــ وانفتح الباب من غير ابطاء بحيث علم الصبي ان الزنجي كان يراقبهم طيلة الوقت ، وكان رجلا عجوزا ذا شعر مرتب تتلامع عليه نقاط زيتية وكان يرتدي سترة من الكتان وقد توقف مغلقا الباب بجسده معلنا :
” امسحوا اقدامكم ايها الرجال البيض لأنكم تأتون الى هذا المكان فالميجور حاليا غير موجود في البيت ” .
قال الأب :” ابتعد عن طريقي ايها الزنجي ” لم يكن صوته دافئا ايضا ، وقد ركل الزنجي الباب وراءه وهو يدخل محتفظا بقبعته على رأسه .وألان شاهد الولد آثار القدم المتصلبة على عضادة الباب وشاهدهم يتجسدون على السجادة الشاحبة خلف الجسم الآلي الذي بدا وكأنه يحمل (او ينقل ) مرتين الوزن الذي كان يتحمله البدن .كان الزنجي يتصارخ ” يا انسة لولو ! يا آنسة لولو ! ” في مكان ما وراءهما ، وبعد ذلك انغمر الولد في داخل موجة ناعمة كونتها انعطافة سجادة السلم والألق الهادئ لحاملي الشموع والوهج الأخرس لشعلة ذهبية اللون، وقد سمع صوت القدمين الرشيقتين وشاهدها ايضا ، سيدة لعله لم يشاهد مثلها من قبل وكانت ترتدي ثوبا رماديا ناعما ذا شريط يلتف حول الرقبة وازارا مربوطا على الخصر وأكمام مرفوعة الى الاعلى ، وهي تمسح الكيك او البسكويت من يديها بواسطة منشفة، عندما صعدت فوق دون ان تنظر الى ابيه اطلاقا بل الى الآثار المتروكة على السجادة الشقراء بتعبير ارتسم على وجهها يحمل دهشة كلها شك وارتياب .
هتف الزنجي قائلا : ” لقد حاولت واخبرته ان .. “
” انصرف أرجوك ” قالت تلك السيدة بصوت مهتز :” الميجور دي اسبانيا غير موجود في البيت . انصرف رجاء” .
لم يتفوه ابوه بأية كلمة ، من جديد .
بل انه لم ينظر اليها . كل ما فعله انه وقف متصالبا في وسط السجادة ، تحت قبعته ، الحاجبين الرماديين الاشعثين وهما ينتفضان بخفة اعلى الحدقتين اللتين كانتا بلون الصخر في الوقت الذي ظهر لكي يتفحص البيت بتفحص متعمد . ثم ، ومع التقصد نفسه راقب محور القدم السليمة وأبصر القدم المتشنجة وهي تلتف حول قوس الانعطاف مخلفة شريطا دبقا متلاشيا .ولم يلق ابوه عليه اية نظرة اليها ، ولو نظرة واحدة الى اسفل حيث السجادة الصغيرة .
امسك الزنجي الباب منغلقا وراءه أعلى عويل المرأة الهستيري غير القابل للتمييز، .اما ابوه فتوقف عند رأس السلم وجعل يكشط بسطاله منظفا حافاته .ثم توقف من جديد حيث البوابة .توقف لبرهة مستندا على القدم المتشنجة ، ناظرا الى البيت في الخلف قائلا :” جميل وابيض ، أليس كذلك ؟ انه العرَق .عرق زنجي.لعله ليس ابيض بما فيه الكفاية من اجل اكسائه،ولعله يرغب في مزجه ببعض العرق الأبيض”
وبعد مرور ساعتين كان الولد منهمكا باحتطاب بعض الخشب خلف البيت في الوقت الذي كانت الأم والخالة والشقيقتان ( الام والخالة ، وليس الابنتين ، عرف ذلك بأنه حتى عند المسافة التي يقف عندها محجوزا بالجدران فان أصوات الابنتين كانت تنبعث بتشويش لا سبيل الى ايقافه ) وكانت الأختان جالستين اعلى الموقد من اجل اعداد وجبة طعام، عندما سمعتا وقع أظلاف وشاهدتا الرجل ذا الجاكيتة الكتانية راكبا على ظهر فرس شهباء حسنة المنظر ،وهي الفرس التي ميزها حتى قبل ان يرى السجادة الملفوفة امام الفتى الزنجي الذي كان يتبعهم على عربة يقودها حصان بدين مخضب وغاضب ومتلاشٍ حتى اثناء القفز خلف ركن البيت حيث كان ابوه وشقيقه جالسين على الكرسيين المائلين .وبعد لحظة وحتى قبل ان ينزل فأسه ، سمع اصوات الأظلاف ثانية وشاهد الفرس الشهباء وهي تعود الى مكانها خارج الساحة .وبعد ذلك اخذ ابوه يهتف مناديا باسم احدى الشقيقتين اللتين ، لحظتئذ ، برزتا خارج المطبخ وهما تجرجران السجادة الملفوفة على امتداد الأرض من طرف بينما كانت الشقيقة الأخرى مشغولة بالمساعدة خلفها .
” اذا لم يكن عندك استعداد للنقل ، اذهبي وجهزي وعاء الغسل ” قالت الاخت الاولى فأستدركت الاخرى :” انت يا سارتي . جهزي وعاء الغسل !”
برز ابوه عند الباب بنفس تلك الرثاثة وكأنه يقف امام ذلك الكمال الواقي لكليهما بينما برز وجه الأم وعليه علامات القلق خلف كتفه .
قال الأب : ” لتمضي وتلتقطي الوعاء ” فانحنت الأختان .. كانت انحناءة متكاسلة بليدة بثوبيهما الفضفاضين وشرائطهما المتخافقة .
قالت الاولى قبل ان ترفع السجادة مع اختها : ” لو فكرت بما فيه الكفاية في سجادة نبذل جهدا من اجل جلبها من فرنسا ، كنت لا أحتفظ بها من اجل ان تدوسها اقدام الناس ” .
قالت الأم : ” آبنر .. دعني اقم بالأمر “. هتف ابوه :”ارجع وهات العشاء . وسأهتم انا بهذا الأمر”. انهمك الولد بمراقبتهم من على كتلة الخشب التي كان يجلس عليها خلال ما تبقى من المساء ، وقد تم فتح السجادة وسط سحابة الغبار بالقرب من جردل الغسيل المملوء بفقاعات الصابون، بينا انحنت الاختان فوقها دون اخفاء اشمئزازهما العميق واللامبالي، بينما وقف الأب على السجادة بشكل متعاقب دون ان يتخلى عن عبوسه ونظرة الحقد المرسومة على وجهه وكان يوجه الابنتين دون ان يرفع صوته ثانية ,وكان في ميسوره ان يستنشق محلول الغسيل القلوي المحضر في البيت ورأى امه تقترب من الباب لمرة واحدة ملقية نظرة خاطفة عليهما وقد لاح على وجهها تعبير لم يكن مشوبا بالقلق، انما باليأس ورأى اباه وهو يستدير ويهوي بالفأس على الأرض كما ابصر من زاوية عينيه اباه وهو يرفع من الأرض قطعة مسطحة الشكل من احجار الحقل متفحصا إياها ليعود بعد ذلك الى وعاء الغسيل، وهنا تحدثت امه حقا : ” يا آبنر ، يا آبنر .. ارجوك لا تفعل “.
ثم نال منه الارهاق ايضا. كان ذلك وقت الغسق وقد بدأت طيور ( السيد الأميركي ) بالتحليق وكان بإمكانه شم رائحة القهوة من الغرفة حيث جلسوا الان لتناول الطعام البارد والبائت من وجبة ما بعد الظهيرة، رغم انه حين دلف للبيت أدرك انهم كانوا يتناولون القهوة من جديد ربما لوجود نار في الموقد .بينما نشرت السجادة قبل ذلك على كرسيين كانا في الغرفة . اما الفترة التي كانوا بها في مكان آخر فيبدو انها كانت مطولة،مليئة بصوت ماكينة جز العشب وما تتركه من مخلفات .
بقيت معلقة هناك بينما كانوا يتناولون وجبتهم الباردة ورقدوا في اسرّتهم متفرقين من دون انتظام او تجول في حيز الغرفتين ،أما امه فنامت في سرير لوحدها والذي سيكذب أبوه بشأنها في ما بعد. ورقد الاخ الاكبر في سرير آخر اما هو والخالة والشقيقتان فناموا على الواح من القش المرصوص .غير ان اباه لم يرقد في الفراش لحد الان. وكان آخر الاشياء الذي تذكرها الولد كان ذلك الشكل السلويتي الطافح بالظلال للقبعة والمعطف الملقى على السجادة وقد بدا له انه لم يغلق عينيه ما دام ذلك الشكل ماثلا امام عينيه ، بينما كانت النار وراء ذلك التكوين وقد خبت او كادت في حين كانت القدم المتصلبة تستحثه لكي يبقى مستيقظا .
قال ابوه : ” أدرِك البغل “.
حين عاد ومعه البغل كان ابوه واقفا عند الباب الأسود وكانت السجادة الملفوفة اعلى كتفه .
” ألا تريد الركوب ؟ ” . ” كلا ، أعطني قدمك “.
احنى ركبته داخل يد ابيه، تلك القوة السلكية الرفيعة والمدهشة راحت تتدفق بنعومة وهي تصعد وهو يصعد مع صعودها على الظهر العاري لذلك البغل ( كان لديهم سرج في احدى المرات وقد صار في إمكان الفتى ان يتذكر لكن دون ان يتذكر اين ومتى ) بالروح نفسها التي لاتبذل جهدا مضاعفا قام ابوه بأرجحة السجادة امامه .والآن وعلى ضوء النجوم شارف الاثنان في هذه الساعة الممر المسائي اعلى اتساع الطريق المغبر والحاشد بأشجار عبقة بالرحيق من خلال البوابة صعودا الى النفق الأسود نحو البيت العديم الإنارة حيث جلس على ظهر البغل شاعرا بثقل السجادة بين فخذيه متلاشيا شيئا فشيئاً .
همس قائلا : ” الا تريدني ان اساعدك ؟ ” فلم يرد عليه أبوه وهو الان ينصت للقدم المتصلبة وهي تضرب الرواق المعزز بالأعمدة عند المدخل .تلك المغالاة الساخطة للوزن الذي يحمله الحيوان .وكانت السجادة تندفع نحو الامام لكنها لم ترتطم بشيء ( كان بإمكان الولد ان يدرك ذلك حتى في قلب الظلام ) حين تصطدم كتف ابيه بزاوية الجدار بصوت عال لايمكن تصديقه .كان صوتا يشبه الرعد ومن ثم القدم ثانية.ثمة ضوء متباطئ وشديد الانتشار فجلس الولد متوترا بعض الشيء وراح يتنفس بهدوء وببطء/ رغم ان القدم لم ترفع درجة ارتطامها على الاطلاق .وحين انحدرت القدم استطاع الفتى ان يراه بوضوح .
همس : ” ألا تريد ان تركب الآن ؟ في ميسورنا ان نركب نحن الاثنين الآن ” كان الضوء الداخلي للبيت يتراوح بين القوة والضعف. انه ينحدر من السلم الآن . هكذا اعتقد. لقد سبق له وان امتطى البغل وجلده على عنقه ولكن قبل ان يبدأ الحيوان بقفزة الخبب التفّ الذراع حوله كابحا اندفاعه المضطرب محيلا اياه الى مشية عادية ، ثانية .
مع بواكير شمس الصباح وجدوا انفسهم في بقعة خالية من الأرض واضعين تروس المحراث على ظهر البغال. وهذه المرة كانت الفرس الشهباء داخل قطعة الأرض قبل ان ينصت الى صهيلها .كان الراكب بلا ياقة قميص بل كان حاسر الرأس، وكان يرتعد ويتحدث بصوت متراعش فيما كانت المرأة داخل المنزل قد انتهت .وكان ابوه ينظر وحسب ولمرة واحدة قبل ان ينحني من جديد الى سير اللجام الذي كان يلتوي بين اصابعه، بحيث ان الرجل الذي كان راكبا على الفرس اخذ بالتحدث حول امر انحناءته: ” عليك ان تدرك بأنك قد قمت باتلاف السجادة الصغيرة .الم تكن واحدة من النساء هنا ؟ ” ثم صمت وهو يختضّ وكان الولد يمعن النظر اليه اما الاخ الاكبر فكان يتكئ الى باب الاسطبل، وهو يلوك شيئا فاتحا عينيه ببطء وثبات نحو الفراغ :” الامر يكلف مائة دولار .ولكنك لا تملك مائة دولار اطلاقا و لن تمتلكها مستقبلا ولذا سوف أزودك بعشرين مكيالا من الذرة لقاء محصولك . وسوف اضيف الكلفة الى العقد المبرم معك عندما تأتي الى بيت التموين حيث توقع على الاتفاقية .ذلك الأمر لن يجعل السيدة دي اسبانيا تلوذ بالهدوء لكن قد يعلمك الامر كيفية تنظيف قدميك قبل ان تدخل البيت من جديد “.
ثم انصرف فنظر الولد الى ابيه الذي لم يكن قد تفوه بكلمة او يرفع رأسه اطلاقا وكان منشغلا بتثبيت الكرة الحديدية في اللجام .
” بابا ” فنظر اليه الأب بوجهه المعتم والحاجبين الكثين المضطربي الشعرات اسفل عينين رصاصيتين راحتا تلتمعان ببرود . وفجأة توقفتا عن ذلك : ” فعلت افضل ما في وسعك ان تفعله ! ” قال هاتفا ، ” لو كنت ارغب تناول الموضوع بشكل مختلف متحريا عن سبب عدم انتظاره من اجل ان يخبرك عن الكيفية وسوف لن ينال عشرين مكيالا ايضا !بل انه لن يتلقى أي شيء ! سوف نقوم بجمعه واخفائه ! وبامكاني ان اراقب الامر “.
” هل اعدت القاطعة الى تلك العربة مثلما اخبرتك ؟ “
” كلا ، لم افعل يا سيدي “.
” اذن اذهب وافعل ما قلته لك “
كان ذلك يوم الأربعاء . وخلال بقية الاسبوع اشتغل بمشقة ومثابرة ضمن مدى طاقته وابعد من ذلك دون ان يكون بحاجة لأن يوجهه احد ما وقد تعلم هذه الخصلة من امه مع الفارق انه كان راغبا في أداء بعض ما كان يمارسه مثل تشطير الخشب بفأسه الصغيرة الحجم والتي حصلت عليها امه وخالته موفرتين بعض المال من اجل تقديمه اثناء حفل الكريسماس. وفي الشركة التي كانت تضم امرأتين كبيرتين في السن ( وذات اصيل ، وحتى احدى الشقيقتين )، استطاع ان يشيد حظائر لصغار الخنازير والعجول وهي جزء من العقد المبرم بين ابيه مع مالك الارض وفي احد المساءات ، ولغياب ابيه ، ذهب الى مكان ما ممتطيا احد البغال متجها للحقل .
كان الاثنان يستخدمان محراثا متوسط الحجم وكان اخوه يمسك المحراث باستقامة بينما كان يحول الأعنة اليه، وكان يجري لصق البغل المتوتر بينما كانت التربة الباردة تتسرب الى اعماق كاحليه العاريين ، ولقد فكر باحتمال الانتهاء من ذلك كله . وربما حتى العشرون مكيالا بدا من الصعب الحصول عليها من اجل دفع غرامة السجادة الصغيرة ،رغم ان ذلك الأجر يعد زهيدا ازاء مشقة العمل. وكان يفكر ويحلم بحيث صار اخوه يخاطبه بلهجة حادة طالبا منه الانتباه للبغل : ربما حتى العشرون مكيالا سيكون عاجزا عن توفيرها .وربما تلتهم ذلك الأجر الميزانية التي ينبغ دفعها من اجل النار والسجادة والذرة والرعب والأسى والتوزع بين جهتين وبين فريقين من الخيول المختفية الى ابد الآبدين .
ثم جاء يوم السبت فنظر من تحت الى فوق البغل الذي كان يقوم بلجمه وشاهد اباه بمعطفه الأسود وقبعته وقد اكتفى بالقول : ” مبدل سرعة العربة ” ومن ثم ، وبعد مضي ساعتين ، وفيما كان جالسا في العربة خلف ابيه واخيه على المقعد استكملت العربة انعطافتها الختامية فشاهد المستودع الذي كان عرضة للجو القاسي والذي لم يكن مطليا على الاطلاق بما فيه من تبغ مبعثر وملصقات دوائية مرخصة وعربات مربوطة وسروج حيوانات اسفل المعرض . فاتبع الخطى خلف ابيه واخيه ومن جديد ظهر الطريق الفرعي المؤلف من الوجوه الهادئة للرجال الثلاثة التي كانت تخترق ذلك المكان . وابصر الرجل ذا العوينات جالسا عند المنضدة السميكة حيث الان لم يعد بحاجة الى من يخبره بأنه قاضي الصلح ؛ فأرسل حملقة وحيدة متشربة باستخفاف وحشي مبتهج لا يخلو من ولاء للرجل الذي ارتدى الساعة ياقة القضاة وربطة العنق، وهو الرجل الذي سبق له ان شاهده مرتين من قبل في حياته وذلك على ظهر حصان متقافز وهو الذي غلف وجهه بمسحة غير ساخطة انما محتشدة بالدهشة الفاقدة للإيمان والتي لم يدركها الولد ويعرف انه يواجه دعوى قضائية أقامها واحد من المستأجرين عليه وجاء ليقف بجوار ابيه فيهتف صارخا : ” انه لم يفعلها ! انه لم يوقد النار في .. “
قال ابوه : ” ارجع الى العربة “. قال القاضي : ” تحترق ؟ هل افهم من ذلك ان السجادة قد احرقت ايضا ؟ “. قال ابوه : ” هل يوجد هنا من يدعي ان الامر كذلك ؟ عد الى العربة ” لكن الولد لم يمتثل بل كل ما هنالك انه تقهقر نحو الركن الخلفي من الغرفة وكانت لا تقل ازدحاما عن الغرفة الأولى، لكن بدون ان يجلس هذه المرة ،ينحشر وسط الأجساد المتخشبة مصغيا للأصوات التي تردد : ” وتزعم ان عشرين مكيالا من الذرة اكثر من ان تدفع كعقوبة لإتلاف السجادة ؟ “
” أتاني بالسجادة وقال انه اراد الآثار التي تمت ازالتها عن تلك السجادة . لقد شطفت تلك البقع واعدتها اليه ” .
” لكنك لم ترجع السجادة الى الحالة التي كانت عليها قبل ان تترك عليها تلك الآثار “
لكن اباه لم يرد والآن وربما لنصف دقيقة ما كان هنالك أي صوت اطلاقا عدا ذلك المنبعث من عملية التنفس وذلك التنهد الضعيف الذي كان مصدره الانصات المتعمد ” وترفض الاجابة يامستر سنوبز ؟ ” ومن جديد لم يجب ابوه : ” سأجد الدليل ضدك يامستر سنوبز .وسوف اجد انك كنت مسؤولا عن تجريح سجادة الميجور دي اسبانيا واعتبرك مسؤولا قانونيا عن ذلك التصرف .ولكن عشرين مكيالا من الذرة يبدو مرتفعا بالنسبة لرجل في مثل مقامك ينبغي عليك دفعه . يدعي الميجور دي اسبانيا ان التخريب كلفه مائة دولار . ان ذرة شهر اكتوبر ستكون قيمتها خمسين سنتا فقط . اعتقد ان الميجور دي اسبانيا يستطيع ان يتحمل خمسة وتسعين دولارا كخسارة من اجل سلعة كلفته مالا نقدا، بينما انت في امكانك تحمل خسارة خمسة دولارات لم تكسبها بعد . ولذا اعتبرك مسؤولا عن اتلاف كمية الميجور بكمية قوامها عشرة مكيالات من محصول الذرة أعلى ما هو متفق عليه في العقد بينك وبينه ، وعليه يجب عليك الدفع انتظارا لموسم جمع الذرة . تم تأجيل الجلسة ” .
لم تستغرق الجلسة الكثير من الوقت وقد انقضى نصف الصباح . ولقد اعتقد بانهم كانوا سيعودون للبيت وربما الى الحقل ما داموا قد تأخروا الى ذلك الحد قياسا ببقية المزارعين . لكن بدلا من ان يشق طريقه وراء العربة فإن اباه اكتفى بالإشارة لاخيه الاكبر ان يتبعه ،ثم عبر الطريق الى محل الحداد في الجهة المقابلة فلحق الولد بابيه وحادثه تارة بصوت عال وتارة بالهمس المنبعث اسفل قبعة الأب ذي الوجه العابس المحتشد بالغضون : ” لن يحصل حتى على عشرة مكاييل . لن يحصل عليها اطلاقا .” الى ان لمحه الاب ولبرهة قصيرة ليجد ان وجهه كان هادئا وان حاجبيه كانا اشيبين وان أهدابه كانت معلقة فوق عينيه الباردتين وان الصوت كان بالكاد متشربا بالسرور وكان وادع اللهجة : ” هل تعتقد بذلك ؟ حسنا ، سيكون علينا ان ننتظر الى ان يحل شهر اكتوبر ، على اية حال ” . ولم يستغرق موضوع اصلاح العربة طويلا فقد تم تثبيت الكابح ونفخ الاطارات في سرعة قياسية عن طريق قيادتها باتجاه نبع الماء الواقع خلف محل الحداد؛ أما البغال فقد جرى دفعها نحو الماء من اجل سقايتها من وقت لاخر بينما مكث الصبي على مقعد العربة ممسكا بالأعنة المرخاة وهو يتأمل المنحدر ويرنو الى نفق السقيفة المكسو بالسخام حيث كانت مطرقة الحداد ترسل دقاتها المتمهلة في حين اعتلى الأب كتلة من اخشاب السرو المنكفئة وكان يتحدث مع الحداد او يصغي له ،الى ان احضر الولد العربة المتقاطرة بعد ان اخرجها من فرع الصيانة والإصلاح موقفا اياها عند الباب .
قال الأب : ” خذ البغلين الى الظل واربطهما بالعربة ” . فأطاعه الابن وقفل راجعا .بينما كان ابوه والحداد ورجل ثالث مقرفصين على اعقابهم داخل المحل وهم يثرثرون حول شؤون المحاصيل والحيوانات متمرغين بالتراب المشبع بالامونيا وقلامات الحوافر المجتثة والصفائح المعدنية الصدئة، حتى سمع اباه وهو يروي قصة طويلة متمهلة سبقت ابنه الاكبر بعدد من السنين حين كان تاجرا محترفا للخيول .ثم جاء ابوه وجلس بالقرب من بوستر السيرك الذي قدم في العام الفائت ، وتفرج عليه بانتشاء لاحدود له وشاهد الخيول القرمزية وهي تؤدي ادوارها المذهلة، وابصر المهرجين الملطخين بالأصباغ الى ان توقف عن التفكير معلنا : ” لقد حان موعد الأكل ” انما ليس في البيت فقد قرفص لصق ابيه قبالة الجدار الامامي ناظرا الى ابيه وهو يخرج من كيس لديه قطعة من الجبن ويقسمها ثلاثة اقسام بمطواته مخرجا عددا من المفاتيح من الكيس نفسه. ثم قرفص الثلاثة على أرضية البهو والتهموا طعامهم ببطء بدون ان ينبسوا ببنت شفة .ثم ختموا وجبتهم داخل المستودع من ماء محفوظ في علب معدنية كان مغمورا برائحة اشجار الأرز واشجار الزان .
مع ذلك فلم يتوجهوا الى البيت . كانت فسحة للجياد هذه المرة حيث جلسوا على سياج طويل مشاد من سكة حديد في حين تراجعت الخيول متقافزين خببا على امتداد الطريق الذي كانت تجري فيه عمليات البيع والشراء حين اخذت شمس الأصيل بالانحدار في الغروب .وكان الثلاثة ينظرون وينصتون الى الشقيق الأكبر بعينيه المكسوتين بالطين ودخان التبغ المتسرب بثبات وصار الأب يكثر من التعليق الان متحدثا الى الحيوانات، او متحدثا الى لا احد.
كان ذلك بعد مغيب الشمس عندما شارفوا البيت. تناولوا عشاءهم على ضوء اللمبة ثم جلسوا عند العتبة الخارجية وشاهد الولد الليل وهو يكتمل منصتا الى اصوات طيور( السيد الاميريي )ونقيق الضفادع اذ ذاك سمع امه تنادي : ” آبنر ! لا ! لا! . ياالله . اوه يا آبنر !” ونهض شاعرا بالدوار ورأى الضوء المتبدل من فرجة الباب حيث قاعدة شمعة راحت تتوهج داخل عنق زجاجة على الطاولة فشاهد أباه الذي لم ينزع قبعته ولا معطفه محتفظا بابتهاجه الرسمي وكأنه يلبس من اجل حفلة غاصة بالعنف والاحتفال، وقد عمد الى خزان اللمبة وأفرغه ثانية في جليكان الكيروسين الذي اعتاد ان يزود به تلك اللمبة .بينما قامت الأم بالتشبث بذراعه الى ان قام بنقل اللمبة الى اليد الأخرى دافعا ذراعها عنه بعيدا ، ليس بوحشية ولا بضراوة بل بحركة خشنة فقط وباتجاه الجدار .لكنها اسرعت بإبعاد ذراعها عن الجدار كي تحافظ على توازنها بفم مفتوح، وقد ارتسم على وجهها الشعور اليائس الفاقد لكل امل مرتجى اتضح من خلال صوتها . عندئذ شاهده ابوه واقفا عند الباب .
” اذهب الى الحظيرة واجلب وعاء الزيت الذي اعتدنا ان نشحم العربة به ” .
لم يتحرك الولد لكنه استطاع اخيرا ان يقول : ” ماذا ؟ مالذي تنويه .. ؟ “
قال ابوه : ” اذهب وهات الزيت . اذهب ” . عندئذ تحرك الولد وجعل يركض خارج البيت نحو الاسطبل ، انها عادته القديمة ، الدم القديم الذي لم يسمح له بأن يكون من اجل نفسه والذي كان قد تحكّم فيه بشكل عشوائي، والذي كان يجري في عروقه لأمد طويل ( والذي عرف من اين صار ينبض بقوة وبكل ما له علاقة بالتوحش والغضب والاشتهاء ) قبل ان تتوغل في شرايينه .كان بإمكاني المواصلة ، فكر ، كان في ميسوري ان اجري واجري دون ان انظر الى الوراء .لكنني لا استطيع فقط لا استطيع !وكانت العلبة الصدئة في يده لغاية الان، والسائل المترجرج بين يديه وهو يقفل عائدا الى البيت نحو صوت امه الباكي في الغرفة المجاورة ثم ناول العلبة لأبيه .
صاح :” الا تنوي ان ترسل زنجيا ؟ على الأقل سبق وان أرسلت زنجيا من قبل ” هذه المرة لم يضربه أبوه . لقد جاءت اليد بشكل أسرع حتى من الضربة ، هي اليد نفسها التي وضعت العلبة على المنضدة بعناية معذبة متخاطفة من العلبة ماضية نحوه على نحو اسرع مما في مقدوره ان يلاحقها .قابضا عليه من ياقة قميصه الخلفية وحتى أخمص قدميه قبل ان يبصر اليد وهي تتخلى عن تلك العلبة ، وكان الوجه منحنيا نحوه بوحشية متقطعة الأنفاس ومتجمدة وراح الصوت البارد الميت يتحدث فوقه الى اخيه الاكبر الذي استند الى المنضدة مكتفيا بحركة تماثل الحركة الجانبية التي تمارسها الأبقار، وهي تلوك بفضول أبله وبلا توقف : ” فرغ محتويات العلبة في العلبة الكبيرة وواصل العمل . وسوف الحق انا بك ” . قال الأخ : ” من الأفضل ان توثقه الى عمود السرير ” قال الأب : ” افعل ما اقوله لك ” وإذا بالولد يواصل التحرك فيما كان قميصه المتقلص وذراعه المحتشد بالعظام يتوسط لوح كتفه .وبالكاد لامس أخمص قدميه الأرضية عبر الغرفة ونحو الغرفة الأخرى وعبر الشقيقتين الجالستين بفخذيهما الثقيلين المنفرجين على الكرسيين فوق الموقد البارد والى حيث قعدت امه وخالته جنبا الى جنب على السرير بينما طوق ذراعا الخالة كتفي الأم .
قال الأب : ” امسك به” فبدرت من الخالة حركة اندهاش :” لا انتِ .. ياليني ..امسكيه جيدا . اريد ان أراك تقومين بهذا العمل ” فأمسكت الام به من رسغه : ” بإمكانك إمساكه بشكل افضل . إن حلحل نفسه فانت لا تعلمين بالضبط ما الذي يرغب في القيام به ” ثم هز رأسه نحو الطريق : ” انه سيذهب الى هناك . ولعل من الأفضل ان اقوم انا بتقييده “. همست الام : ” انا سأقوم بامساكه “.
” أراك تقومين بذلك ” ثم انصرف الاب ،وتوقفت القدم المتخشبة عن قرع أرضية الأرضية ، أخيرا . وشرع يناضل من اجل ان يتحرر . أمسكته امه من كلتا ذراعيه لكنه راح ينتفض ويلوي ذراعيه وكان الأقوى في نهاية الامر وكان يعلم ذلك . غير انه لم يكن يمتلك من الوقت ما يكفي لكي ينتظر : ” اذهبي يا ليني . لا أريد أن اضربكِ. ” .
قالت الخالة : “دعوه يذهب فان لم يفعل ، أمام الله سأقوم انا بالمهمة بنفسي “. بكت الام: ” ألا ترين بأنني لا استطيع ؟ يا سارتي ياسارتي ! كلا كلا ساعديني ياليزي !”
فأطلق سراحه وحاولت خالته التشبث به غير ان أوان تلك الرغبة قد انقضى فقد تحرك بشكل ملتو، وجعل يركض بينما تعثرت امه وهي تندفع صوب الأمام ووقعت على ركبتيها وراءه وجعلت تنتحب بين ذراعي اقرب الأختين : ” امسكن به . لا عليكن ! اقبضن عليه ! ” ولكن ذلك النداء جاء غير ذي جدوى فالشقيقة ( الشقيقتان كانتا توأما وقد ولدتا في الساعة نفسها ومع ذلك فقد أعطت كلتاهما انطباعا خاصا شأنهما شأن أي اختين في الاسرة ) ولذا مكثتا من دون ان تبدر من كلتيهما اية حركة لمغادرة الكرسي، فكلا الوجهين كان يفتقد لأي تفاعل مع أي حدث خارجي بل ان ما ارتسم على وجهيهما لم يكن سوى تعبيرا يماثل اهتمام بقرتين . ولهذا أمسى الولد خارج الغرفة بل خارج البيت في غمرة غلالة غبارية مضاءة بسماء حاشدة بالنجوم وبأشجار ( صريمة الجدي ) الفواحة بالرحيق بشكل شريط شاحب غير ملتف مع تباطؤ مرعب تحت قدمين متراكضتين . وحين وصل الى البوابة اجتازها منعطفا ومواصلا جريه المتسارع في الوقت الذي كان كل من قلبه ورئتيه تقرع طبولها المدوية ومن ثم اجتاز الدرب تلو الدرب باتجاه البيت المضيء والباب المضيء .ولم يقرع الباب بل انه اجتاحه اجتياحا لا هوادة فيه وهو يلهث بعد أن نضح منه عرق غزير ،وفي تلك اللحظة أبصر الوجه المندهش للزنجي الذي يرتدي السترة الكتانية بدون ان يعلم بالضبط كيف أتيح للأخير ان يظهر على هذا النحو المباغت .
هتف صارخا وهو يلهث: ” دي اسبانيا .. أين ألــ.. ؟ ” ثم رأى الرجل الأبيض أيضا وقد ظهر من جهة الباب التحتاني . فهتف : ” الحظيرة ! الحظيرة ! “
فتساءل الرجل الابيض: ” الحظيرة ، حظيرة ؟ ” صاح الفتى: ” اجل . الحظيرة ! “
فهتف الرجل الأبيض : ” اقبضوا عليه ! ” لكن اوان ذلك كان قد فات ، ايضا .لقد امسك الزنجي بقميصه لكن الكم بأكمله ، وقد تهرأ من كثرة الغسيل ، انفلت منجرفا مع الريح ولهذا أمسى خارج ذلك الباب ثانية ووسط الطريق الفرعي لكن الحقيقة انه لم يتوقف عن الجري حتى عندما انهمك بالصراخ في وجه الرجل الأبيض .
وراءه كان الرجل الأبيض مازال يصرخ : ” حصاني / ابحثوا عن حصاني ! ” ولبرهة فكر في اختراق المتنزه وتسلق السياج باتجاه الشارع العام غير انه كان لا يعرف الكثير عن ذلك المتنزه وطبيعة ارتفاع السياج المؤلف من كروم العنب ما يضعه في قلب الخطر. ولهذا راح يجري باتجاه أجمة النهر وملء جوارحه دم وأنفاس تطلق زئيرا مدويا .لكنه امسى الان في وسط الطريق رغم انه لم يشاهده من قبل . بل انه لم يتمكن من سماع وقع الفرس الشهباء وهي تسير سير الخبب اعلى رأسه وفوق جناحيه المحلقين منتظرا تلك اللحظة النهائية كيما ينقذف جانبا نحو العشب الوحشي المجزوزالذي يحف بالقناة الموازية للطريق العام فيما تمر تلك الفرس فوقه . ولبرهة ومن خلال اللوحة السلويت حيث النجوم ، في سماء ليلة من ليالي الصيف الهادئ والذي حتى قبل تلاشي شكل الفرس وراكب الفرس ؛ تلطخت اللوحة فجأة وبشكل عنيف صوب أجواز الفضاء .. وثمة زئير طويل مدهش وبدون أي ضجيج يبقع النجوم ، بينما راح يقفز صوب جهة الطريق العام من جديد .وكان يعلم بأن الأمر قد تأخر كثيرا ولكنه ظل رغم ذلك يركض ويركض حتى بعد ان سمع صوت الطلقة التي أعقبتها بعد لحظات اطلاقتان أخريان ليتوقف في هذه اللحظة غير مدرك بأنه قد توقف عن الركض صارخا وهو ينشج بالبكاء : بابا ! بابا ! ويجري ثانية قبل ان يدرك انه كان قد شرع بالركض متعثرا خاطرا فوق شيء ما مخربشا بيديه من جديد بدون ان يتوقف عن الجري ناظرا الى الوراء أعلى كتفه وهو يرتقي الأعالي وسط الأشجار الخفية لاهثا متعرقا : ابتِ ! ابتِ ! .
في منتصف الليل جلس على الهامة التاجية للهضبة ولم يكن يدرك ان الليل قد أزف ،ولم يدرك كم من المسافات قد قطع .لكن لم يعد هنالك من وهج خلفه فجلس لقليل من الوقت تاركا ظهره لما كان يحسبه البيت لأربعة ايام متتالية ، الى درجة ان وجهه كان يصافح ظلام الغابات محتضنا نفسه نحو ما تبقى من قميصه المخلولق ، حيث لم يعد الشجن شجنا ولا القنوط ارتعابا بل محض بقايا من شجن وقنوط .
يا ابتي!
ياابي ، فكر ” كان شجاعا ! ” وأنشج باكيا على حين غرة عاليا، انما لم يكن ذلك البكاء مرتفعا الى حد الاصطخاب ، لم يكن اكثر من همسات متدفقة في صمت : ” كان شجاعا ” وكان مقاتلا في الحرب . لقد كان الكولونيل سارتوريس من كتيبة الفرسان ! دون ان يعلم ان اباه قد خرج الى تلك الحرب بصفة جندي متطوع حسب المفهوم الأوربي القديم والأنيق وبدون ان يرتدي أية بزة عسكرية رسمية ، دون ان يمحض او يتقبل سلطة لأي امرئ او أي جيش او أي راية .وقد ذهب الى الحرب مثلما فعل ( مالبروك ) قرد الاشجار الغرب أفريقي نفسه : ذلك لان مفردة ( بوتي ) لم تكن تعني اكثر من ( جندي غنائم ) دون ان تعني له شيئا سواء أكان هو جندي غنائم عدوا ام صديقا .
وكانت الكويكبات المتمهلة مستمرة بالدوران . سيحل وقت الفجر وتشرق الشمس بعد لحظات وسيتضور جوعا .. لكن ذلك سيكون غدا . وهو لا يشعر حاليا الا بالبرد وليس سوى البرد وسيعمل السير على معالجته . وها هو تنفسه يصبح اكثر يسرا ا .وقد عزم على الاستيقاظ ليدرك انه كان نائما لأنه ادرك ان الوقت كان فجرا .وسيتبدد الليل شيئا فشيئا .وكان في إمكانه إدراك ذلك عن طريق طيور ( السيد الاميركي ) التي ما زالت محلقة بين الأشجار المحفوفة بالعتمة تحته ، مواصلة لتحليقها متراقصة وبلا انقطاع ، ولذا فان لحظة التعافي باتجاه طيور النهار قد ناهزت اقترابها شيئا فشيئا ، اذ لم تكن هنالك فترة استراحة بين الفترتين .لقد استيقظ الولد. وكان متخشب الأوصال الى حد ما، بيد ان المشي سيعينه على علاج ذلك التخشب ايضا مثلما يفعل البرد وقريبا ستشرق الشمس .
واصل انحداره أسفل التلة صوب الغابات المظلمة التي كانت تعج بأصوات الطير السيّالة معلنة بأنها لن توقف الخفقان المتسارع للقلب الملحاح، والمنشد لليلة من ليالي الربيع المتأخر .
ولم يلتفت الفتى الى الوراء .
اضاءات
وصف الناقد كونراد أيكن أسلوب الأميركي وليم فوكنر بأنه :” غابة مملوءة بالمتسلقات والأزهار البرية المتوحشة التي تبدو لعين المرء متداخلة بجلال لانهائي، لامعة ومتألقة بطريقة ذات حركة افعوانية ، حيث تنزلق لفّة من المتسلقات فوق الأخرى ، وتتعانق الأوراق والأزهار بصورة سحرية ” . ونص فوكنر (الحظيرة تحترق ) يعد واحدا من الامثلة التي ينطبق عليها رأي ايكن .
لفد انجز فوكنر نصه هذا عام 1939 والذي وصفه ناقد آخر بأنه نص قصصي تصعب ملاحقته بسبب الطول الذي تتميز به جمل فوكنر، وميله الى طمس العديد من التفصيلات . غير ان قراءة متأنية تعكس مستويات النص الذي يحمل في طياته ادانة للرجل الابيض الذي يمعن في اضطهاد اخيه الاسود .
في ” الحظيرة تحترق ” يدُفع بالصبي الذي يدعو نفسه بالكولونيل سارتوريس سنوبز الى قاعة محكمة من اجل ان يكون شاهدا على ابيه المشتبه باحراق حظائر سيده، والمتهم باتلاف سجادة نفيسة ، ليقع في حيرة بين ان ينحاز لأبيه او ان يروي الحقيقة وحسب .
ثيمات فوكنر مرايا ابداعية لعذابات الجنوب الأميركي .
- كتاب سبيل تولستوي إلى ذاته الباطنة | ليو تولستوي
- رواية القديس | أحمد عثمان
- كتاب الدولة اليهودية | تيودور هرتزل
- كتاب رحلة ابن فضلان إلى بلاد الترك والروس والصقالبة | أحمد ابن فضلان
- رواية الراهب الأسود | أنطون تشيخوف
- رواية إحراق حظيرة | ويليام فوكنر
- كتاب 55 مشكلة حب | مصطفى محمود
- رواية المدينة التى لا أسم لها | لافكرافت
- رواية وعد الملاك | فريدريك لونوار
- كتاب الخروج عن النص | محمد طه