لوحة من مطر الجنون
قصة/ يسري الغول
أداء/ نجلاء عطا الله – فادي العيسوي
هندسة صوتية/ صديق فلفل
رابط القصة في مجلة 360ْ
360.sadaf.ps/Issues/Issue4/#page/66
البرق والرعد والريح والمطر، عزف على كمان المدينة البعيدة.
… وكعادتي كل مساء، أجلس في إحدى المقاهي المطلة على الراين، أحتسي قدحاً من القهوة، أتأمل المارة، أفكر بمهام عمل اليوم التالي، ثم أمضي.
هذه المرة بقيت، طويلاً بانتظار اللاشيء، سارحاً فيمن حولي، ولا أدري كيف اجتاحتني تضاريس مخيمنا الهرِم، فباتت رائحته تحاصرني، كأنني في جوفه، كأنني لم أخرج منه بعد، والمطر في الخارج يرسم جدارية الهروب. ملامح تمضي مسرعة تختبئ خلف عرباتها. وجوه ترتعش تحت أسقف المحال التجارية. أيدي تحتضن ملابسها، وأجساد ترتعش فلا تستطيع أن تمسح حبات المطر التي علقت بها. أحمد ربي بذلك الدفء الذي احتواني داخل المقهى. أحمده على وصولي قبل العاصفة بقليل. أحدق في الشارع الموغل بالوحشة، أتأمل المارة من جديد، المعاطف التي تتطاير مع الريح، المظلات التي ترتفع إلى أعلى. وكمجنون أوشك أن أخرج من المكان لألقي بنفسي في ذلك النهر الثائر، تماماً كما كنت في مخيمنا المطل على البحر، أتنافس مع أقراني، نجري في الماء، ثم نغطس، نسبح ونسبح، نصل السفينة المكسورة البعيدة، تلك السفينة التي قالت فيها جدتي ما لم أجده في ألف ليلة وليلة، ولم أجده في حكايات بورخيس أو ماركيز أو حتى كويهلو. أصعد على شراعها المتبقي في تلك المساحة الزرقاء، ثم أخلع ملابسي، عارياً كما ولدتني أمي، أبول في الماء، كأنني أتحداهم، أتحدى تلك الفتاة المجنونة التي كبرت معي في مخيمنا، وصرنا طلاباً في إحدى مدارس المخيم، نذهب بملابس رثة، مهترئة، ونحمل في حقائبنا البالية سندوتشات السمك التي تدهن دفاترنا برائحة البحر المملح بالجوع والحرمان، فتدفع بمدرسينا أن يتقيئوا حال التقاطهم تلك الكراريس، وإطلاق العنان لألسنتهم بالسب والشتم، فندرك السر ولا نعود لكتابة واجباتنا المدرسية مرة أخرى.
***
المدرسة وأشجار الكينياء والصفوف القرميدية المتراصة وسناء، كل ذلك يعود الآن دفقة واحدة، بعد أكثر من ثلاثين عاماً. يا إلهي، هل هو مطر الجنون؟ أم هي نزوة الحياة والبحث عن الذات؟ كما أخبرني صديقي محمود البارحة.