أغنية “سبل عيُونه ومد إيدُه يحنُّونه” -من تراث المنطقة- اقترنت بطقس الشهادة الفلسطينية. الفلسطينيون وحدهم اختلطت مواكب أعراسهم بمواكب شهدائهم. أغاني أعراسهم هي نفسها مراثي قتلاهم؛ وزفة العريس المحمول على الأكتاف، هي نفسها زفة الشهيد المحمول على الأكتاف. وفي الحالتين، يغادر الولد الذي حبا ومشى واستوى فتىً، عُشَّه وعينَ أمه، ذاهباً إلى حضن جديد، بعيد.
أعرف بالتحديد عن الشعور “الحامض/الحلو” عند الأمهات الفلسطينيات في الأعراس. لمحتُ دائماً ذلك المزيج المهجَّن في غناء الفلسطينيات: الفرح بالولد الذي استوى رجلاً يتزوج، مظللاً بحزن بخروجه من الدار، وبحِدَّة لحظة ذهابه إلى امرأة أخرى، حين لا تعود أمه حُبَّه الوحيد. دائماً تمتلئ أغنيات النساء في العرس الفلسطيني بهذا الفرح المعبَّق بالحزن، وتصنع غصة لا تُوصَف.
الشهيد أيضاً، عند الأمهات الفلسطينيات، عريس يُزف لـ”امرأة” أخرى، ولا يعود حبيبَ أمه ولأمه. وقد اختلطت في الحقيقة ماهية العرس الفلسطيني، ليصبح تنويعات على حدَثٍ لخصته قصيدة الراحل العظيم، محمود درويش، “أعراس”:
“عاشقٌ يأتي من الحربِ إلى يوم الزفافْ/ يرتدي بدلتَهُ الأولى، ويدخُلْ/ حلبةَ الرقصِ حصاناً من حماسٍ وقرنفلْ/ وعلى حبل الزغاريدِ يلاقي فاطِمَه/ وتُغني لهُما، كلُّ أشجار المنافي، ومناديلُ الحِداد الناعمَه/ ذبَّل العاشقُ عينيه/ وأعطى يدَه السَّمراء للحناء، والقطن النسائيِّ المقدس/ وعلى سقف الزغاريدِ، تجيء الطائرات/ طائراتُ، طائرات/ تخطِف العاشقَ من حضنِ الفراشه، ومناديل الحِداد/ وتغني الفتيات: قد تزوجتَ، تزوجتَ جميع الفتياتْ، يا مُحمد! وقضيتَ الليلة الأولى على قرميد حيفا، يا محمد! يا أميرَ العاشقينْ، يا محمد! وتزوجتَ الدوالي، وسياجَ الياسمينْ، يا محمد! وتزوجتَ السلالمْ، يا مُحمد! وتُقاومْ، يا مُحمد! وتزوجتَ البلادْ، يا محمد! يا محمد!”
حِناء العريس الفلسطيني تحضيرٌ لاحتمالين؛ للقاء واحدة من محبوبتين –أو هي نفس العروس في تجليين؟! بالنسبة للفلسطيني: المرأة والأرض لا تفترقان، كلاهما نظير الروح، والموتُ دونهما مُقدس. وهذه الثيمة، ثيمة الزفاف إلى واحدة من “العروسَين”، أصبحت حاضراً طبيعياً في الروح الفلسطينية، بما فيها من ألمٍ فوق-بشري. لذلك يقول المغني الفلسطيني: “في كلِّ يومٍ عُرسْ، ودمعتانِ/ ميعادُنا في القُدسْ، مهما نعاني”. لذلك يقول الشاعر إبراهيم نصر الله، في قصيدته عن شهيد من غزة: “صباحٌ لأعراسنا العالياتِ كظهر الحصانْ/ …/ صباحٌ لأحلى الشباب، (جيفارا)/ لم يزلْ يانعاً في عيون الصبايا/ ومستسلماً لغناءِ البلابلِ.. مُحتفلاً بنجومِ الدماءْ”؛ لذلك تقول أم فلسطينية في أنشودة عن ابنها الذي جلبوه ملفوفاً بالعلم الوطني: “أنا إمُّه يا فرحِة إمُّه/ في عُرسُه، في ليلِة دَمُّه”. وتقول لها أنشودة أخرى: “يا امِّ الشهيد، وزغردي/ كلِّ الشباب ولادِكي”. ولذلك يقول درويش أيضاً: “هذا هو العرس الذي لا ينتهي/ في ساحةٍ لا تنتهي/ في ليلةٍ لا تنتهي/ هذا هو العرسُ الفلسطينيُّ، لا يَصلُ الحبيبُ إلى الحبيبْ، إلا شهيداً أو شريدا”.
هذا التماهي المستحيل الذي اجترحه الفلسطينيون بين العرس والشهادة، هو طريقتهم العبقرية لمراوغة قسوة لا نظير لها في خبرة البشر. إنهم يُلبسون الموت ثوبَ الحياة. وحتى تحتمل الأم الفلسطينية خروج ابنها محمولاً من الدار دون انفجار عروقها، يقولون لها: زغردي يا ام العريس! فتطلق الصراخ متخفياً في زغرودة مستحيلة. وهي طريقة أيضاً لحرمان العدو من متعة الشماتة.
في هذا الفصل من الانتفاضة الفلسطينية، يُحكى أن شاباً طلب من أمه قبل خروجه للاشتباك الأخير مع العدو، أن تهيئ له ملابس تليق بعرس؛ وهناك عريسٌ آخَر كان قد تزوج قبل ثلاثة أشهر فقط، ردَّد قبل خروجه للاستشهاد هذه الأغنية بالذات، “سبَّل عيونُه ومدّ ايدُه، يحنُّونه”، وطلب من أمه أن تغنيها معه. ونحنُ، نسمع هذه الأغنية، بنغمة “الصَّبا” الحلوة/ الحامضة، فتخنقنا الشجون ونحن لا نعرِفُ إذا كانت تُغنى لعريس أم شهيد.
لكنها في نسخة “فرقة الجذور” بكلمات خالد أبو خالد، تنتهي بمقطع يَذبَح: العريس مُسبل الجفنين للحناء، ينادي أهله، وكأنه سيطلب منهم الغوث! ثم كأنه يأنف من استدرار شفقتهم لكي لا يدعوه يخرج، فيطلب أن يصبّوا قهوة مُرة فقط، لا نعرف إذا كانَت لهناء أم عزاء: “سبَّل عُيونه ونادى: يا هلي. نادى!/ خَصرو رِقَيِّق، وصُبُّوا يا هَلي السَّادة!”
حتى الأهل نفسُهم، لا يفهمون!